معاناة شباب الأطباء: ظروف قاسية تدفعهم للاستقالة أو الهجرة بحثًا عن حياة أفضل

في أروقة المستشفيات، يتحول يوم العمل بالنسبة لشباب الأطباء، وتحديدًا أطباء الامتياز، إلى سباق مُنهك مع الوقت وضغط الحالات، حيث تمتد “النوبتجية” في كثير من الأقسام إلى 24 أو 48 وحتى 72 ساعة متواصلة، دون فترات راحة كافية أو أماكن مخصصة للنوم، وفقًا لما رصدته “إقرأ نيوز”.
يجد الطبيب نفسه مطالبًا بفحص عشرات الحالات في زمن ضيق، وأحيانًا يواجه اعتداءات لفظية أو جسدية من بعض المرافقين، بينما يتحمل وحده أمام المريض وأسرته مسؤولية إيجاد الحلول.
“معاناة شباب الأطباء” أوضاع قاسية تدفع للاستقالة أو الهجرة.
في غياب التدريب العملي الكافي وانعدام التنظيم، يتحول العمل اليومي إلى عبء جسدي ونفسي، يدفع كثيرين إلى الاستقالة أو الهجرة بحثًا عن بيئة عمل أكثر إنسانية، تاركين خلفهم فراغًا يضاعف الأعباء على زملائهم الذين اختاروا البقاء في الميدان رغم المعاناة المستمرة.
وقال الدكتور أحمد الشيخ، عضو مجلس نقابة الأطباء ومقرر لجنة الإعلام بالنقابة، لـ”إقرأ نيوز” إن بيئة العمل التي يواجهها الأطباء في المستشفيات الحكومية والتعليمية أصبحت “غير منطقية” على الإطلاق.
وأوضح أن الطبيب قد يُطلب منه العمل 24 أو 48 أو حتى 72 ساعة متواصلة، مع ضرورة أن يكون بكامل تركيزه وقدراته الذهنية والجسدية لتأدية عمله دون تقصير، وهو ما يعد أمرًا “خارج العقل” ولا يمكن لأي إنسان تحمله.
وأضاف أن عبء العمل اليومي أصبح مرهقًا وغير إنساني، فبدلًا من أن يرى الطبيب 10 حالات في ساعتين، يجد نفسه مطالبًا بفحص 30 أو 40 حالة في نفس المدة، ما يحول دون التقييم الطبي الدقيق ويؤثر على استفادة المريض من الخدمة الطبية.
وأشار الشيخ إلى أن بيئة العمل الآمنة تمثل أولوية، إذ تشهد المستشفيات اعتداءات متكررة على الأطباء، وهو ما يضعهم تحت تهديد مستمر ويؤثر على قدرتهم على أداء مهامهم، فضلًا عن نقص الأدوية والمستلزمات الطبية والأشعة، وغياب بعض التخصصات المهمة في عدد من المستشفيات، ما يضطر الأطباء لتحويل المرضى بحثًا عن الرعاية المناسبة.
ولفت إلى أن الطبيب غالبًا ما يتحمل أمام المريض وأهله مسؤولية توفير العلاج والأجهزة، وإذا لجأ لطلب أي مستلزمات من خارج المستشفى قد يُحال للتحقيق، كما أن كثيرًا من المستشفيات لا توفر سكنًا لائقًا أو حتى أماكن للنوم أو دورات مياه كافية، وفي بعض الحالات يضطر الأطباء لاستخدام مرافق مشتركة مع التمريض أو العمال أو حتى المرضى.
وأوضح الشيخ أن ضغوط العمل تدفع كثيرًا من الأطباء للعمل لساعات إضافية في القطاع الخاص لزيادة دخلهم، ما يؤدي إلى جداول عمل مرهقة تمتد لأيام متواصلة بين المستشفيات الحكومية والخاصة، وهو ما يفاقم الإجهاد البدني والنفسي.
وأكد أن ساعات العمل في مصر “كارثية” مقارنة بدول أوروبا أو الخليج، وأنها غالبًا غير موثقة رسميًا، فضلًا عن أن هجرة الأطباء للخارج بسبب هذه الظروف تؤدي إلى نقص حاد في الكوادر، إذ قد يتبقى في المستشفى خمسة أطباء فقط بدلًا من عشرين، ما يضاعف العبء على من يستمرون في العمل.
من ناحيتها، قالت الدكتورة هبة علي محمد، استشارى الصحة النفسية والعلاقات الأسرية، إن ضغوط العمل أو الاحتراق الوظيفي أو الاحتراق النفسي في العمل قد تدفع الموظف إلى تقديم الاستقالة؛ نظرًا لاستنزاف طاقته دون مقابل عادل أو أي دعم، والشعور بأنه مهما قدَّم من مجهود لن يُقدَّر ذلك، إلى جانب غياب التوازن بين حياته الشخصية والعملية.
وأوضحت استشارى الصحة النفسية، لـ”إقرأ نيوز”، أن نتيجة ما سبق هي تقديم الاستقالة حفاظًا على الصحة النفسية، مشيرة إلى أن الاستقالات الجماعية تعني أن الأمر خرج عن المألوف وأصبح الضغط غير محتمل، مما أدى إلى هذه الخطوة، مشددة على أنه إذا لم تتوافر جميع السبل الداعمة للصحة النفسية فلن يتمكن الموظف من أداء عمله على أكمل وجه.
وأشارت الدكتورة هبة على إلى أن هناك أمراضًا تنتج عن ضغط العمل مثل الإجهاد المزمن، واضطرابات القلق، والتوتر، ونوبات الهلع، والاكتئاب، بالإضافة إلى فقدان الشغف لتطوير الذات بسبب عدم وجود الوقت لذلك مع زيادة ضغط العمل، وأضافت أن الأمراض النفسية تؤثر على الجسم مسببة أمراضًا عضوية مثل مشاكل القلب، والأمعاء، والمعدة، والقولون، واضطرابات النوم والأكل، وهو ما يضعف الجهاز المناعي نتيجة مشكلات في الجهاز العصبي.
وتابعت أن هناك قواعد منظمة للعمل لا بد من الانتباه إليها، منها تحديد ساعات عمل ثابتة وليست طويلة ومتواصلة، ووجود فترات للراحة، وعدم التعرض المستمر للانتقادات أو الأمور السلبية أو التقليل من شأن العمل أو انعدام التقدير، إذ إن كل ذلك يؤدي إلى انخفاض الإنجاز وعدم تقديم أفضل أداء ممكن.
وانتقدت بعض الرؤساء في العمل الذين يعتقدون أن الضغط يولد أداءً أفضل، مؤكدة أن هذا الاعتقاد يعطي نتائج عكسية تمامًا، إذ أن بيئات المهن تختلف من مجال لآخر، خاصة مهنة الطب التي تُعد من أكثر المهن احتياجًا لبيئة نفسية آمنة ومستقرة على المستويين الشخصي والمهنى، موجِّهة نصيحة إلى قادة العمل بضرورة توفير بيئة عمل متوازنة وآمنة لضمان تقديم أفضل أداء ممكن.
ورصدت “إقرأ نيوز” شهادات حية لأطباء شباب عايشوا بيئة العمل داخل المستشفيات وصفوها بـ “القاسية”، بعضهم اضطر للاستقالة هربًا من الضغط وانعدام الظروف الإنسانية، وآخرون ما زالوا في الميدان رغم المعاناة اليومية، بين ساعات عمل تمتد لعشرات الساعات بلا راحة، وغياب التدريب الحقيقي، ونقص الإمكانات الأساسية، يجد الأطباء أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر: الاستمرار في بيئة تستنزف صحتهم وكرامتهم، على حد تعبيرهم، أو ترك المهنة التي أفنوا سنوات من عمرهم في دراستها
وقال محمد (28 عامًا)، طبيب مقيم بقسم العظام كلية الطب بجامعة أسيوط، لـ”إقرأ نيوز”، إن سنة النيابة الأولى في القسم كانت “الأكثر قسوة” على حياته المهنية والشخصية، واصفًا إياها بأنها “تدمّر حياتك بالكامل” بسبب العمل المتواصل وانعدام الراحة أو فرص التعلم الفعلي.
وأوضح: “أول سنة في جراحة العظام إما تكون في العيادات أو الاستقبال، وفي الحالتين الضغط رهيب، النواب الصغار يتحملون عبء متابعة المرضى، بينما كبار النواب يتواصلون بالتليفون فقط، ونادرًا ما ينزلون لرؤية الحالات”
وأضاف أن قرارًا صدر العام الماضي لتقليل ساعات العمل إلى 12 ساعة يوميًا، لكن لم يُستمر في تطبيقه أكثر من شهرين، وعاد النظام القديم لساعات العمل الطويلة التي تصل أحيانًا إلى 32 ساعة متواصلة، وهو ما وصفه بـ”النظام الذي يدمّر حياتك”.
وأشار محمد إلى أن العمل في الاستقبال يتسم بالكثافة الشديدة، حيث يمكن أن تمتد الوردية إلى أكثر من 30 ساعة متواصلة، مما يحرم الأطباء من أي حياة شخصية.
وأضاف: “رئيس القسم وبعض كبار الأطباء يرفضون تقليل الساعات، بحجة أن الراحة تضر بسير العمل، وكأننا آلات لا بشر”
وتابع: “الأزمة لا تتوقف عند ساعات العمل، بل تمتد لغياب التدريب الحقيقي، العمليات المهمة غالبًا تقتصر على النواب الكبار أو المساعدين، بينما النواب الصغار لا يُسمح لهم بالمشاركة إلا في عمليات بسيطة جدًا، النتيجة أن مستوى النواب الجدد متدنٍ، لأنهم لا يتلقون فرصًا كافية للتعلم العملي”
وأكد أن هذا الوضع دفع الكثير من زملائه للاستقالة مضيفًا: “إما أن تريحني أو تخليني أشتغل وفي المقابل أتعلم حاجة كويسة، لكن أشتغل من غير راحة ومن غير ما أتعلم، يبقى أنا بخسر كل حاجة”
وفي وقت سابق بعد تقديمهما الاستقالة نشرت الطبيبتان على صفحتيهما الشخصية عبر فيسبوك ما يجري في بيئة العمل فتقول هايدى هاني – النائب المستقيل رقم 6 من قسم النساء بجامعة طنطا: “كنت نايب في قسم النساء بجامعة طنطا لمدة تسعة أشهر، لكن للأسف الوضع هناك كان لا يُطاق، الشغل كان مرهق جدًا، ومفيش تقدير أو التزام بالقوانين، وكأن الهدف استهلاك النائب في كل حاجة غير التعليم، أوقات كتير كانوا بيشغلونا في إداريات أو مهام مالهاش علاقة بالطب، وده على حساب التدريب العملي اللي المفروض إحنا جايين عشانه، المعاملة من بعض الإدارات كانت سيئة، والنظام غايب، والمكان نفسه كان بيطرد أي إحساس بالكرامة، أنا مؤمنة إن الإنسان ما ينفعش يستمر في مكان من غير احترام أو تقدير، وعشان كده قررت أمشي”
أما رنين جبر – النائب المستقيل رقم 8 من قسم النساء والتوليد بجامعة طنطا فتحكي: “في يوم جمعونا وقالوا لنا بالنص: (وجودكم مش مرحب به)، وإنهم مش هيشغلونا على راحتنا، وكأن الرسالة واضحة: امشوا، عمري ما قصرت في حق حالة، وكنت بأدي شغلي على أكمل وجه، لكن النبطشيات كانت بتوصل لـ 72 ساعة متواصلة، وأحيانًا بننام على الأرض أو على الكراسي لأنه مفيش مكان مخصص للراحة، كان مطلبنا بسيط: تنظيم أوقات العمل وتوفير ظروف إنسانية للمبيت، لكن مفيش حد استجاب، الضغط كان فوق طاقة البشر، والوضع استنزفنا جسديًا ونفسيًا
وقالت نقابة الأطباء إنها تناشد كافة الجهات المعنية، مؤكدة ضرورة مراعاة المعايير المهنية والإنسانية في تشغيل شباب الأطباء، بما يضمن لهم بيئة تدريب آمنة ومحترمة، تُعزز من قدراتهم ولا تستنزفهم.
وأوضحت أن تمكين الطبيب الشاب من التعلّم والتدرّب تحت إشراف مناسب، ووفق ساعات عمل عادلة، هو أساس إصلاح المنظومة الصحية وبقائها قادرة على أداء دورها.
وكادت تصل الأزمة إلى جامعة القاهرة، حيث انتشرت أنباء عن وفاة الطبيبة سلمى محمد حبيش بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، والتي كانت تقضي فترة الامتياز بكلية طب قصر العيني؛ نتيجة إرهاق العمل.
وبالتواصل مع إدارة مستشفى قصر العينى، أكدت أن جامعة القاهرة أصدرت بيانًا رسميًا نفت هذه الأنباء، إذ أعربت الجامعة عن أسفها لفقدان إحدى طبيباتها الشابات، فإنها تؤكد، وفق الثابت من التقارير الطبية وملابسات الواقعة، أن سبب الوفاة لم يكن مرتبطًا بالإجهاد أو ضغط العمل، كما تم تداوله على بعض المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي.
وأكدت الجامعة حرصها على توفير بيئة عمل آمنة وداعمة لجميع أعضائها من الأطباء وهيئة التمريض والطلاب، مشددة على أن المستشفيات الجامعية تعمل وفق المعايير الطبية والمهنية المتعارف عليها، وأنها لا تتوانى عن تقديم الدعم والرعاية لجميع منتسبيها.